من الغريب والعجيب أن تقوم الأجهزة المعنية في الدولة بفرمك فرمًا.. وبلا شفقة أو رحمة.. إذا أمرتك بأن تدفع لها الأموال فلا بد أن تدفع أي مبلغ تقدره هي.. حسبما ترى وحسبما يمتلئ كرشها الذي إذا فكرت - وفي هذا استحالة - في التخفيف منه، لن يحتاج إلى عملية تكميم واحدة.. بل إلى عدد من العمليات، من التكميم الكامل إلى التحويل الجزئي للمسار.. ومنه إلى التحويل الكلاسيكي.. ومرورًا بالسادي، والساسي، والسادسي.. وصولًا إلى طي المعدة، والبالون، والكبسولة العجيبة، وهكذا بحسب الإعلانات المتتابعة والمتتالية يوميًّا لأطباء باتوا بروفيسورات في هذا المجال.. تمتلئ عياداتهم يوميًّا بعشرات الراغبين في التخلص من أوزانهم الثقيلة.. وتعجّ غرف العمليات طوال الوقت بهؤلاء الذين دفعوا مبالغ مالية لا تقل عن خمسين ألفًا من الجنيهات، في ما يمكن وصفه بأنه اقتصاد سري يديره الأطباء والمستشفيات.. في غيبة الدولة كليًّا ورقابتها الضريبية.
شبكات التواصل وصفحات الفيسبوك وإكس - تويتر سابقًا - تمتلئ بأسماء العديد من الأطباء، والمراكز، وأنواع الجراحات التي تجرى.. حتى أنها أصبحت تقدم بتسهيلات في السداد عبر التقسيط المريح، خاصة وأن بعض الأطباء يشترطون تقاضي مبالغ كبيرة مقابل هذه الجراحات.. في تعالٍ شديد على نظرائهم الذين يفضلونها منخفضة التكلفة، كثيرة المردود؛ نتيجة الأعداد الكبيرة التي تتردد عليهم.. فهذا طبيب يقول لك: "لو كنت عامل التحاليل ومستعد، تعالَ إلى مستشفى كذا يوم الثلاثاء".. ويحيلك إلى محاسب المستشفى إذا أردت أن تدفع بالتقسيط.. هكذا بمنتهى البساطة!
أما الطبيب الآخر فحين تقول له: "يادكتور أنت تتقاضى مبلغًا ضخمًا مقابل الجراحة، في حين أن هناك مراكز أخرى تتقاضى أقل، فيرد عليك بحسم: "شوف المكان المناسب ليك واعمل فيه العملية"..
مثل هذه الجراحات الشهيرة في عالم التخسيس والرشاقة تحتاجها الدولة بالفعل؛ لكي تخفف من مصابنا الأليم فيها نحن المواطنين.. من توحش رسومها وغلاء أسعارها بما يفوق الطاقة والقدرة.. ولكنها لم تفعل ولن تفعل.. فمنذ أصبحت تتقاضى رسومًا باهظة على الخدمات (شهادات ميلاد، ووفاة، وزواج، وطلاق أول وتاني وتالت.. وفواتير غاز، ومياه، وكهرباء، وأسعار بنزين وكيروسين رهيبة) وهي تستمرئ لعبة جمع المال مجانًا، من دون أن تتعب في أي شيء.. تمامًا مثل السماسرة.. الحكومة هي أكبر سمسار يتحكم فينا، من دون أن تقدم خدمة لنا. في المقابل، بل على الجانب الآخر، تخلت عن فكرة تأمين أرواحنا، أو منحنا الأمن والأمان.. ذلك الذي تضن به علينا، وتمنحه لوزرائها ونوابها وإعلامييها، وغيرهم ممن يتغنون بإنجازاتها، حقيقية، أو مبالغًا فيها، أو مزعومة.. المواطنون يضربون رؤوسهم في الحيط كمدًا وألمًا.. لأن ربنا خلقهم كده عرايا من كل ما يسترهم ويحميهم.. فهم لا يذهبون الى الساحل الطيب، أو الساحل الشرير.. ويقضون أغلب الوقت في السرير؟!
- متى تحل عنا الحكومة، وتكفّ عن فرمنا ودهسنا بالأحذية القديمة.. متناسية أننا قد وصفنا يومًا من أكبر رأس في الدولة بأننا "نور عينيه"؟ الجملة التي كانت إشراقة في لحظتها.. انقلبت وبالًا علينا بكل المقاييس. متى ترفع يدها عنا وقد ضاق بنا الحال، صار وبالًا؟ متى تكمم الحكومة معدتها، أو تحول مسار جبايتها بعيدًا عن جيوبنا؟ أو متى تعيد إلينا نور عنينا التي فقأتها بكثرة جبايتها للمكوس والضرائب، على غرار ما كان يفعل ملوك الطوائف، والمماليك، والمحتسبون، والملتزمون في أعمال الجباية؟
- متى تجري الحكومة عملية تكميم أو تحويل.. تعيد إلينا مسارات حقوقنا، التي رفعت أيديها عن دعمنا في المطالبة بها، تركتنا وحدنا تمامًا.. في مواقف الباصات والميكروباصات، في الميادين المزدحمة بالتوكتوك تنهش كبرياء الناس.. فيهينهم طفل بمفك صليبة مدعيًا امتلاكه القدرة على أن يفعل ما يشاء ولا أحد يردعه.
تركت الناس بمفردها في الشارع، حيث لا تجد رجل أمن قريب يمنع الأذى إن لجأت إليه.. ادع الله ألا يمسسك ضر، ووجه ناظريك إلى السماء.. ولكن مهما كان الدعاء، فقد يمنع قدرًا أو يغيره، وقد لا يفعل.
- لست وحيدًا في الشارع وحسب، وإنما في كل مكان: البقالة، الماركت، السوق، الشهر العقاري، السجل المدني، الطرق والكباري التي لا تحمل إشارات تهديك، الشوارع الخطيرة الخالية من الإنارة، سواء داخلية، أو إقليمية، أو دولية.
- أنت وحدك في كل ما يتعلق بك.. أما ما يتعلق بالحكومة والدولة فهذا غير ممكن، كل ما فيك ملك لهما.. لكنك لا تملك للدولة، أو للحكومة، أو لأركانهما أي شيء.. أي شيء، حتى لا تملك - مثل أي بلد ديمقراطي حر تعرفه - حق أن تقيل حكومة فاشلة وتأتي مثلًا بحكومة منتخبة، ولا حتى برلمان منتخب.. أنت في دولة كل مواطنيها يخدمون السلطة، بل ويخدمون الحكومة.. يصنعون لها كل شيء.. ألا تذكرون الرجل الذي يعتلي عرش الصحة، ذلك الذي عنف الناس عندما انتقدوا الأساليب الصعبة في التعامل مع مرضى العلاج بالإشعاع - لهم الله -؛ لأنهم مارسوا حقهم في النقد، بينما كان يريد منهم أن يمارسوا فريضة الشكر أولًا للحكومة التي تقوم بعلاجهم! أزمات كثيرة وقعت بين وزراء ومواطنين، للأسف وجدنا فيها من زملائنا بالإعلام من يوجه دفة الأمور وجهات أخرى، مثلما جرى بين خالد عبد الغفار وكامل الوزير، والجماهير التي كان واجبًا أن تخشاها الحكومة والدولة كلها.
بعد ثورة 25 يناير ودعوة الشعب للفريق السيسي - رئيس الدولة الحالي - لترشيح نفسه رئيسًا، قال إن أي رئيس دولة قادم، لن يكون قادرًا على مواجهة الشعب كما كان يحدث.. في إشارة إلى قوة الشعب، وأنه بات الطرف الأقوى في المعادلة.. للأسف لم يكن هذا صحيحًا مطلقًا، ليس على المواطن الآن سوى السمع والطاعة.. وتقبل الهزيمة في كل معاركه اليومية التي يخوضها مع الحياة.. من الطعام والشراب إلى الدواء، ومن المواصلات إلى التعليم.
- ما هذا الهم المقيم يا رب العالمين؟ حتى وزراء الحكومة منكوبون بسوء التعامل، والفجاجة، والجليطة، وانعدام الذوق مع الناس، ويتعاملون وكأنهم مخلدون.
- في السنوات الأخيرة بهدف زيادة مداخيل الدولة من الضرائب، استحدثت وزارة المالية والضرائب أنماطًا وسياسات للتعامل مع الموردين والموزعين والمصدرين والمستوردين، ومنحتهم فرصًا عديدة لينضموا إلى البوابة الضريبية التي عملت بها مؤخرًا، وحذرتهم من عدم الانضواء تحت مظلتها أو التأخر في ذلك.. طبعًا الحكومة صاحبة المصلحة في جمع "الفكة" و"اللحاليح" و"الأخضر"، عملت عجين الفلاحة حتى تبلغ المستهدفين بالعملية بالتعليمات الجديدة، أغرتهم بأنها امتيازات يجدر بهم الاستفادة منها لكي تسير أمورهم، وتتواصل أعمالهم بلا انقطاع.. قدمت لهم نظام الفواتير الإلكترونية والضريبية.. وانتظرت أن يأتوا إلى حجرها فيلقون بالأموال فيها، ويا دار ما دخلك شر..
- الغريب والعجيب أن تفعل الحكومة كل شيء، وحتى عجين الفلاحة الذي تبرع فيه، وما كنا نعرف عنها ذلك.. ومن يريد التأكد يمكنه أن يشاهد بدقة ويتأمل تلك اللقطات الملغزة، التي التقطت لرئيس حكومة مصر الهمام ورئيس إثيوبيا "آبي أحمد.. أو أبيه.. أو أنشته" [اسم دلع يعرفه الناس من أفلام الأبيض والأسود].. صور أيديهما المتشابكة في حنو وصداقة ومحبة، بين رجلين أحدهما مصرى طيب أو... والثاني إثيوبي شرس وأشياء أخرى، هذه الصور الملتقطة للأيدى المستجدية تتضرع إليه: "الله يخليك ياسيد آبى لا تغلق حنفية مياه نهر النيل علينا!".. إنها تكشف ما لا يغيب عن فطنة الناس.
- في زمن سابق دمرنا ميناء إيلات بأيدى رجالنا من الصاعقة.. وأغرقنا "الحفار" أثناء رحلته من فرنسا إلى العدو وهو في مياه البحر.. بينما التوربينات الخمسة في سد إثيوبيا المعادية للشعب المصري، لا أحد يقدر عليها!
الحكومة لا تستأسد إلا علينا نحن.. مأساة. جرب أن يكون لك حق من الحقوق تحاول الحصول عليه؟ جرب.. جرب أن تتظلم من هذا الكم الرهيب من المخالفات المرورية التي تسجل على سيارتك دون أن تعلم.. لماذا يحدث ذلك دون علمك؟ أليس لدى أجهزة المرور رقم تليفونك؟ ألم تضع الملصق الإلكتروني على زجاج سيارتك.. وهو الذي يربطك حتمًا بجهاز المرور؟ وكيف يطلب منك السداد أو التظلم الفوري وأنت ليس لديك أدنى فكرة عن ما تحرر ضدك من مخالفات؟
جرب أن تجري جراحتين في أحد المستشفيات.. ثم فكر في الحصول على فاتورة..
جرب وحاول..
جرب مرة واثنتين وثلاثًا..
اقرأ الفاتحة أو عدية ياسين.. امسك المزامير.. لكن لا تمشِ بجوار المعبد اليهودي.. مطلقًا!
ادخل الكنيسة الرسولية في شبرا، وأشعل شمعة أو 9 بحكم أنه تسجل ضدك مخالفات بمبلغ تسعة آلاف جنيه.. كلها مخالفات سرعة، تظلمك منها في اليوم التالي يتيح لك إمكانية إسقاطها، كما فهمت من أحد المخضرمين.. لكن إن عدى اليوم وانتهى الميعاد لا أمل لك ولا أسماء ولا غيرهما.
ادخل الجامع الأزهر المقدس.. أو أقولك اذهب لمولانا الحسين.. أقول لك.. اذهب إلى السيدة عائشة، لن تردك خائبًا، سترتاح.. لكنك في نهاية الأمر لن تحصل على تظلم وتسقط عنك مخالفات لا تعلم أنها حررت ضدك.
كما أنك سترتاح لزيارة كل آل بيت النبي.. لكن المستشفى الذى لا يقهره أحد.. ولا يعلم عن مداخيله اليومية سوى العاملين فيه، لن يمنحك فاتورة.. يمكنك تقديمها لموظف مشروع علاج نقابة الصحفيين.. ليدفع لك نسبة مما دفعته للمستشفى، وفقًا لما هو معمول به في تأمينات النقابات.
هكذا.. الدولة تجرك من قفاك إذا كان لها عندك بعض المال.. لكنها تتركك وحيدًا تمامًا وأنت تحاسب الميكروباص الذي يضاعف الأجرة بمزاجه.. وأنت تشتري زجاجة زيت كان سعرها في الصباح 65 جنيهًا وارتفع عند المساء بما يعادل بضعة جنيهات أخرى.. وأنت تدفع خمسين ألفًا من الجنيهات لطبيب جراح يجري لك جراحتين في مستشفى دون أن تعرف إن كان اسمك مسجلًا في قوائم الدخول أو غير مسجل.. ودون أن يحق لك الحصول على فاتورة.. ليس فقط لضمان حقك في نسبة التأمين.. وإنما لأنك أيضًا تحرص على حصول الدولة، ولو كانت دولة جابية، على مقرراتها من نسب الضرائب.. باعتبارك مواطنًا صالحًا.. ولا علاقة لك بما فسد ويفسد في الدولة أو الحكومة.. تمامًا مثل سقراط، الذي اعتقلته السلطات وحبسته بموجب قوانينها، فلما أراد تلاميذه أن يهربوا به من السجن رفض وقال قولته الشهيرة "نحترم القانون ولو كان جائرًا، نلتزم به ولا نكسره، وإنما نعمل من أجل إسقاطه".
هذا الزمان تغيرت فيه المعايير، حتى الرجل الصالح أصبح مختلفًا عليه.. الشيء الوحيد الذي لم نتوقع أن يختل ناموسه ويتغير قاموسه، وأساليب تعاملاته العادية مع الشعب.. هو الحكومة، بل الدولة برمتها.. الدولة التي نعرفها زمان انتهت.. الدولة التي كانت تعتبر "الشعب هو السيد" انتهت.. وبقى الشعب وحيدًا.. يشكو للحسين والسيدة وكل آل بيت النبي، ويرفع يديه بالدعاء: "والنبي.. رجعولنا الدولة.. الدنيا خربت".
--------------------------------
بقلم: محمود الشربيني